بين العربية والشريعة علاقة وطيدة، ونسباً وصهراً، وإن العربية ما كانت لها هذه المنزلة، إلا بالإسلام، كما أن الله تعالي جعل العربية لسان الوحيين، وتتجلى العلاقة بين اللغة وبين الإسلام وشريعته فيما يأتي
نزول القرآن الكريم بلغة العرب:
قال تعالي: ( إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ” يوسف12
وقال تعالي: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) ” طه:113
وقال تعالي: (وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) ” الرعد: 37″.
وقال تعالي: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) ” الشعراء: 192- 195″.
وقال تعالى (وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ)” النحل:103″.
وقال تعالي: كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ) “فصلت:3”.
قال الإمام الشافعي: ” ومن جماع كتاب الله: العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب”.
وقال الشاطبي رحمه الله: ” إن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية، فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم…”.
كون النبي صلى الله عليه وسلم عربيا
النبي صلي الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد، ولقد أوتي جوامع الكلم؛ وذلك لقوله صلي الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه” وقال تعالي: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).” إبراهيم:4″. وقوله تعالي: (فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا) ” مريم:97″.
قال الإمام الشافعي: ” وبلسانها- أي العربية- نزل الكتاب، وجاءت السنة”.
وقال القاضي عياض :” واما فصاحة اللسان، وبلاغة القول، فقد كان صلي الله عليه وسلم ذلك المحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع؟، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخصّ ببدائع الحكم، وعُلّم ألسنة العرب، فكان يخاطب في كل أمة منها بلسانه، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها”.
وقال السيوطي في المزهر” النبيّ صلي الله عليه وسلم اختاره الله من قريش؛ وذلك لأن” قريش أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالي اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمداَ”صلي الله عليه وسلم” وكان كذلك لمقاصد نبيلة؛ “لأنك لا تجد في كلامهم- أي قريش-عنعنة تميم، ولا عجرفة قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا كسر أسد وقيس”.
موافقة معاني القرآن لمعاني العرب:
إن معاني كتاب الله موافقة لمعاني العرب، وظاهرُ كتاب الله ملائمٌ لظاهر كلام العرب.
قال الإمام الشاطبي: “كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثمة عرف فلا يصح أن يجري في فهمهما علي ما لا تعرفه العرب” وقال أيضاً: “لابد لمن أراد الخوض في علم القرآن والسنة من معرفة عادات العرب في أقوالها، ومجاري عاداتها حال التنزيل من عند الله، والبيان من رسوله صلي الله عليه وسلم، لأن الجهل بها موقع في الإشكالات؛ التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “اللغة، والعادة، والعرف الذي نزل به القرآن والسنة، ومان كان الصحابة يفهمونها من الرسول صلي الله عليه وسلم عند سماع تلك الألفاظ، فبتلك اللغة، والعادة، والعرف خاطبهم الله ورسوله، لا بما حدث بعد ذلك”.
اللسان يضفي قدراً علي الإنسان:
لقد جعل الله اللسان أداة تضفي علي هذا الإنسان.
ولا عجب أن عظَم العرب شأنَ اللسان، وقالوا: المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، أي قيمة الإنسان في هذين العضوين الصغيرين: العضو الباطن وهو القلب، أوالفؤاد، أو العقل الذي به يميز، ويفكر، والعضو الظاهر، وهو اللسان، الذي به يعبر، ويتكلم.
وقد هدي الله كل أمة إلي لغة أو لسان يتخاطبون به، ويعبرون به عن أغراضهم في الحياة، ويتفاهم به بعضهم مع بعض، واعتبر القرآن اختلاف الألسنة آية من آيات الله تعالي في هذا الكون، كما قال تعالي: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ“( الروم:22“.
لسان القرآن كان أداته:
لسان القرآن كان أداته وآيته التي قهرت المخالفين، والجاحدين، وأقامت عليهم الحجة، وألزمتهم الجادة، وأبلستهم فانقطعوا عن اللجاجة، ومن هنا أصبح القرآن الكريم، ولسانه حقيقة واحدة؛ لا ينفك أحدهما عن الآخر، ويعتدي علي أحدهما من حيث يطعن الآخر، ويستبين لنا ما في الكتاب من ذخائر العلم والمعرفة ما دامت صلتنا وثيقة بلسانه.
تكفل الله عز وجل بحفظ اللغة العربية:
لم تعرف لغتنا العربية هذه الغربة التي عرفتها اللغات الأخرى؛ لأن الله عز وجل قد تكفل بحفظها، وخلودها حين وعد بحفظ كتابه الكريم في قوله:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ)” الحجر: 9″؛ فكان حفظ الله لكتابه حفظاً للعربية بما أودع فيها من خصائص الخصوبة، والمرونة، والقدرة علي التجدد.
ولم تعرف الإنسانية علي طول تاريخها لغة خلدها كتاب إلا اللغة العربية، وتلك معجزة القرآن، أو اعجازه.
الدعوة لتعلم اللغة العربية، وتناشد الأشعار:
ضرورة تعلم العربية وتناشد الأشعار، لا سيما غير العرب من المسلمين يرجي منهم تعلم اللغة العربية تفادياً للحن والتصحيف، كما يرجي من العرب الفصحاء التقدم في التعلم والتضلع من علوم العربية، بل وتناشد الأشعار؛ من أجل صيانة فصاحتهم، وسلامة سليقتهم؛ وقد وردت آيات وآثار تهيب بتعلم العربية، وعدم إهمالها؛ منها رواية أبي مسلم قال:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “تعلموا العربية؛ فإنها تشبّب العقل، وتزيد من المروءة…”
وروي عنه أيضاً: “تعلموا الفرائض والسنة، واللحن، كما تتعلموا القرآن…”
وعن سعيد بن المسيب قال أيضاً: “بينما حسان بن ثابت ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم، فجاء عمر فقال: يا حسان بن ثابت تنشد الشعر في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقال: أنشدت فيه، وفيه من هو خير منك…
هل يدخل من لحَنَ في الحديث مع من كذب متعمداً علي النبي صلي الله عليه وسلم؟
قال الأصمعي: “إن أخوف ما أخاف علي طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلي الله عليه وسلم: :”من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار” ؛ لأنه صلي الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه، ولحنت فيه، كذبت عليه”
وقال أبو بكر الشنتريني:“روي عن النبي صلي الله عليه وسلم: “من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار”، ومن لحن في حديثه فقد كذب عليه؛ لأنه صلي الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فإن قيل: فإن لم يقصد به اللحن، فليس بمتعمد، فالجواب: أن كل من علم أنه غير مستقل بالإعراب، ثم تعرض لقراءة كتاب الله، أو حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإنه متي لحن في أحدهما، فقد تعمد الكذب، ويتأكد الأمر عند من يقول بحماية الذرائع”.
بمقدار العلم باللغة العربية كان كذلك في الشريعة:
يقول أبي اسحاق الشاطبي: “إن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية، فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم؛ لأنهما سيان في النمط ما عدا وجود الإعجاز. فإذا فرضنا مبتدئاَ في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطاً فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهي إلي درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فيها حجة، كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأنهم، فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولاَ”.
المروق عن العربية سبب الخلاف المذموم:
إن المروق عن منطق اللغة العربية- لسان القرآن الكريم- يؤدي بلا نزاع إلي نشوب الخلاف المذموم بين المسلمين؛ وقد أكد هذا المعني العلامة السيوطي حين تناول أسباب اختلاف العلماء؛ حيث ذكر أن أطراح المنطق اللغوي، والاحتكام إلي منطق فلاسفة اليونان كان من تلكم الأسباب العجيبة، ونص عبارته بالضبط قوله: “ما جهل الناس، واختلفوا ، إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلي لسان أرسطو طاليس”
اللغة العربية لسان الملة:
قال ابن خلدون أصول العلوم النقلية كلها هي الشرعيات من الكتاب والسنة؛ التي هي مشروعة لنا من الله، ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة”
اللسان العربي شعار الإسلام:
وهذا ما درج عليه الجلة من علماء السلف الصالح؛ بحيث أنهم عدوا التكلم باللغة العربية شعاراً كبيراَ للإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون”.
معرفة اللغة العربية أصل لمعرفة الشريعة:
قال العلامة ابن الأثير:
“معرفة اللغة والإعراب هما أصل لمعرفة الحديث لورود الشريعة المطهرة بلسان العرب”.
علم اللغة مرقاة لجميع العلوم:
قال الإمام أبو حامد الغزالي: “إن علم اللغة سلم ومرقاة إلي جميع العلوم، ومن لا يعلم اللغة العربية، فلا سبيل له إلي تحصيل العلوم، فعلم اللغة أصل الأصول”.
ضرورة اللغة العربية لفهم مراد الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم:
هذه الضرورة أضحت ضربة لازب لفهم مراد الله ورسوله صلي الله عليه وسلم؛ الشيء الذي يضطر المسلمين إلي تعلم العربية وعلومها؛
قال الإمام الشافعي: لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معلنيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت علي من جهل لسانها
وقال أيضاً: “فعلي كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو كتاب الله”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين علي أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه”. وقال أيضاً: “فإن نفس العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثم منها ما هو واجب علي الأعيان، ومنها ما هو واجب علي الكفاية.
وهذا معني ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عيسي بن يونس، عن ثور، عن عمر بن يزيد قال: كتب عمر إلي ابي موسي الأشعري رضي الله عنه: أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن؛ فإنه عربي”. وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال : “تعلموا العربية؛ فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض؛ فإنها من دينكم”. وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية، وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال، ففقه العربية: هو الطريق إلي فقه أقواله. وفقه السنة: هو الطريق إلي فقه أعماله”.
قال ابن عطية معلقاً علي بعض الآثار الداعية لإعراب القرآن: “إعراب القرآن أصل في الشريعة؛ لأن بذلك تقوم معانيه التي هي الشرع”.
العربية والشريعة، علاقة الوسيلة بالغاية:
يقول الشاطبي: إذا”فرضنا مبتدئاً في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطاً فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهي إلي درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فالعلاقة بينهما طردية، وهي كما نص عليها نفسه علاقة “المقصد بالوسيلة”.
العلاقة بين العربية والشريعة متنوعة:
في نواحي جمة، فهناك علاقة نحوية، وعلاقة لفوية، وعلاقةبلاغية، وعلاقة في المصطلحات، وعلاقة في بعض القواعد العامة.
اللغة العربية والهوية:
النشاط اللغوي- الذي هو أساس كل علاقة- يمكن أن يعطي معني لكل ما نتحدث به، أو نقوم به من أفعال لبناء حياتنا الاجتماعية، وأنشطتها، كما يمكن أن يقوضها من الأساس؛ ولذلك أجمعت الدراسات السوسيولغوية علي أن اللغة هي أحد أبرز مكونات الهوية، حيث يختلط الجنس والعرق باللغة، وينسب الكائن البشري غالباً إلي لغته، إن عربياً فعربية، وإن فرنسياً ففرنسية، وإن أيطالياً فإيطالية… فاللغة والوطن أو الجنسية متلازمان كوجهي العملة الواحدة، لا يمكن الفصل بينهما دون الإخلال بمنظومة الهوية ومكوناتها، والسقوط في الضياع المؤدي إلي التلاشي التدريجي.
يقول مصطفي صادق الرافعي : “إن هذه العربية لغة دين قائم علي أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون علي إعجازه بفصاحته؛ إلا من لا حفل به من زنديق يتجاهل، أو جاهل يتزندق”.